وجدت يوما بالصدفة فقرة من إحدى قصص إدريس خالي عند الراقن الذي كان يطبع لي بعض أبحاثي، فدفعني الفضول للاطلاع عليها، وأحسست رغم قِصر الفقرة وعجلة القراءة أن الرجل يملك نفَسا فريدا في الكتابة . لكن تلك الفقرة منعزلة لم تسمح لي بتكوين صورة مكتملة عن تجربة هذا الكاتب.
مضيت لشأني وقد بقي في نفسي انطباع حسن، أجده عادة كلما قرأت عملا أدبيا حقيقيا. ورغم أن علاقتي بالكاتب كانت محدودة، ومعرفتي به لم تكن تتجاوز اهتمامه بالأنشطة الثقافية والكتابة الصحفية .فإني كنت ألمس أن وراء شاربه الكث، وبسمته الدائمة ذكاء متقدا، ولوعة خاصة بالتقاط الجزئيات، والتفاصيل التي يحتاج إليها أي كاتب حقيقيي.
عندما دعاني لزيارته ذات صيف ب" تروال " حاضِرتِه الصامتة المحتجبة في جبال الريف . وخلال مدة إقامتي لديه عرفت ممالك تروال، واستمتعت بسكونها، وظلالها و طيبوبة أهلها . كما لفت انتباهي، هناك، عذرية الحياة، وطهرها المسكون بحس فريد، وذوق رفيع في البناء وتزيين الجدران، رغم بساطة العمارة . فعبرت وقتها عن إعجابي بطراوة مظاهر الحياة، وقدرة الترواليين على رؤية الجمال وإحساسهم به في الأشكال والصور .
وبقدر استمتاعي بعذوبة الماء، وحلاوة التين والدقيق المجفف، وزيت الزيتون وخبز الفرن الساخن، بقدر إحساسي برد الجميل الأدبي لهذا المكان وأهله، وهو شيء لم أتمكن منه وقتئذ . وقبل أن أترك تروال الجميلة الشامخة، قدم لي هذه المجموعة للاطلاع عليها، وإبداء رأيي فيها قبل نشرها.
وكم كانت سعادتي غامرة، وأنا أقرأ قصص إدريس خالي بقية ذلك الصيف، حيث اكتشفت أن قدرتي على تشكيل الصور الفنية اللا ئقة بتروال لا تصمد أمام قدرة واحد من أبنائها ؛ فقد شدتني رؤيته وتمثله للأشياء تمثلا فنيا، مع جمالية التناول والتعبير . وتكونت عندي قناعة أن هذه الكتابات تستحق أن تقرأ، فهي مكتوبة بصدق فني، وحساسية أدبية مرهفة تجاه العوالم والكلمات والصور. ويمكنني أن ألخص بعض مظاهر هذه الحساسية الأدبية في:
قدرة كاتبها على اختيار عوالم مميزة، بحس قصصي له سماته، وبالأخص عناصر محيطه ؛ فالشخصيات واقعية قريبة منه، يعرفها جيدا، عن طريق الارتباط الحياتي بها، فهي جزء من يومياته؛ الأمر الذي وسم هذه القصص بطابع سير ذاتي . وهو ما ولَّد لدي انطباعا بأنها تخلق لها جمالية أدبية جديدة خاصة بها، تثور على الأنواع، وربما لا تضعها في اعتبارها وهي السيرة الذاتية القصصية، بحيث تعطي مجتمعة صورة عن حياة كاتبها، الذي لا يكتب إلا عن الأشياء الحميمية، الأشياء ا لتي تركت بصماتها واضحة في عقله وروحه، أو لنقل الأشياء التي لها معنى عنده، أو تلك التي يريد إبراز موقف منها .إنها قصص تلتقط لحظات خاصة، وأجده قبالتها شبيها بنحَّات أثري، يصنع هيكل نحته، ويضع فيه بدايات المعنى، ولمَّا يشعر أنه بدأ يحقِّق أصواته الأولى، وتَعَلَّم الحبو، تبتعد الأصابع، نافضة عنها عجائن اللغة والصور، تاركة للقارئ إكمال التجربة. إنها أعمال عميقة، سريِّة، لا نعرف أحيانا سر حلاوتها، كما لا نعرف أسرار العسل الذي في تين تروال .
اللغة في مجموعة إدريس خالي شعرية بديعة، موحية، دافئة العينين واليدين، لها سحر لمسة الأم في وجنتي رضيعها وهي تضاحكه ؛ كذلك كان الكاتب مع قصصه، فهو حذر معها، منتبه لزوغانها، حدِب على لون الطبيعة في وجهها، يكلمها ويحكي لها حتى يدوِّخها النعاس، فتنام بين يديه في هدوء وأمن وسلام.
من مزايا ما يكتبه إدريس خالي، قدرته على التقاط التفاصيل الصغيرة، والجزئيات الحياتية العابرة، ثم إعادة تركيبها بمنظار فني وأسلوبي عالي الصناعة. وكما أنه يختار الموضوعات، أو لنقل إنها تختاره ليكتبها، فهي موضوعاته، وهو الأقدر على النفاذ إلى بواطنها وأعماقها، واختيار طرائق الإبلاغ والتعبير،ولغة الحوار، ورمزية الأشياء والكلمات والصور المناسبة . بالإضافة إلى قيمة الموضوعات والتجارب، نجد تنوعا مكانيا أعطى للتجربة طابعها الشمولي، حيث عكست لنا صورة بعض الأماكن التي ارتبط بها الكاتب ( المدرسة،البيت، الجامعة، الحافلة،القسم، تروال ،فاس، أكادير...).ثم إنها كتابة لا تقتصر على آليات السرد المعروفة، وإنما تغتني من كل الأشكال الممكنة التي تزيدها تنوعا وثراءً (التراث،الأغنية،الجريدة،الصورة،الحلم،الألوان، الرسالة، الشعر، الكلام اليومي، اللغة الشعبية، لغة الشارع، والحوار ...) .
ولعل ما حقق في تقديري جمالية خاصة فيما كتبه إدريس خالي عباراته الموجزة والمركزة، فهو يكتفي بما هو ضروري من الكلمات، يختارها اختيارا دقيقا لرسم مشاهده. كما أن فيها قدرة على الإمساك بالأزمات النفسية التي تعيشها شخصيات قصصه، أو لنقل قصص سيرته، وتصويرها بدقة، عن طريق ربطها بأسبابها، مصورا إحساسها بالغربة والتذمر والقنوط، في قالب فني يحفظ لتلك اللحظات تأججها، ويجعلك تتلقف منها ما تراه مناسبا لأحوالك، وهنا تحضر الصورة الشعرية ذات القيمة العالية والمبنية على التشبيهات والتمثيلات. هذه الطاقة التمثيلية والتمَثُّلية للأشكال والصور والحالات هي عين الأدب، فهي الدليل على تمثُّل الأشياء حضوريا وغيابيا، واستيعابها في ذاتها أولا، ثم باستحضار نظائرها التي تختزنها الذاكرة أو التي تجود بها الطاقة التخيلية في المقام الثاني .
تحكي هذه القصص عن الألم، والغثيان، والوجع الزماني والمكاني،وتُعرِّي تناقضات الواقع المختلفة، وفيها حنين إلى الأم،وخبز الفرن، والبيت التابوتي، والدالية، حيث تظل المكاشفة حاضرة بقوة، دائرية وامتدادية . وهي مكاشفة استشفائية ،تعري الأزمات الداخلية وتطمح إلى تحقيق مصالحة معها، و مع عناصر المحيط.
وحتى لا أطيل عليك أيها القارئ وأستحوذ على مساحات تأويلك وانتظاراتك، فهذه جملة أشياء نازعتني قراءتي الأولى والثانية لهذه القصص المفتوحة النهايات، المسكونة بالحميمية والحنين، وأختم بالقول بأن الكتابة عند إدريس خالي حققت بسمة طفل بريئة، وكشفت عن خيوط البكاء من وراء خيوط الضحك، جلت حقيقة الشجن في أوضح بلاغاتها، وكلمت المنسي برؤيتها المفجَّرة من الداخل . وبقدر الحيرة أو القلق الذي تزرعه فينا، بقدر المتعة الفنية التي تبثها فينا والمتألقة على بهجة الاكتشاف. وبقدر بحثها عن رصد التفاصيل ودقائق التجارب المسرودة، بقدر بحثها عن جماليتها الخاصة .
إني أنتظر أن تكبر عوالمها وتمتد أغصانها, ويكتمل المد في ثمارها، كما أنتظر أن تورق قرب بابي شتلة التين، مع علمي أن شجرة الكتابة أقدر على مدِّه ومدِّ قرائه بصور ضعف الإنسان في علاقته مع الخطيئة، والندم، وبحثه المستمر عن خلاصه الأبدي.